calendar

هل الشكوى من المرض تنقص الأجر؟

الجواب: أولًا: نذكر بعض ما يتصل بهذه المسألة: العبد أولًا مأمورٌ عند الابتلاء بأحد أمرين؛ إذ الابتلاء إما أن يكون ابتلاءً بالخير في السراء وإما أن يكون ابتلاءً في الضراء، وهتان الحالاتان لكل واحدة منهما عبادة يقوم بها العبد، فإذا ابتلي العبد بالسراء كان عليه أن يقوم بعبادة الشكر لله سبحانه وتعالى، والشكر له أركان ثلاثة كما هو معلوم، ركن يعود على القلب، وركن يعود اللسان، وركن يعود على الجوارح، أما القلب فعليه أن يقر بأن المنعم هو الله سبحانه وتعالى، وأما اللسان فإن يذكر ذلك -أي يذكر أن الذي أنعم عليه هو الله سبحانه وتعالى- ، وأما الجوارح فإنها تستعمل هذه النعمة في طاعة الله سبحانه وتعالى، وأما إذا ابتلي الإنسان بالضراء فإنه يتوجب عليه عبادة الصبر، والصبر هو حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله سبحانه وتعالى، وحبس القلب عن التسخط على قدر الله المؤلم، وحبس الجوارح عن المعصية وقت البلية، ومما يضاد الصبر، الشكوى إلى المخلوق فإذا شكى العبد ربه عز وجل إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه، والشكوى نوعان: شكوى إلى الخالق جل وعلا وهي لا تنافي الصبر كما قال يعقوب عليه السلام إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ  مع قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وأما الشكوى إلى المخلوق فقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله في مرض موته أن طاووسًا كره أَنِين الْمَرِيض، وَقَالَ: إنه شكوى، فَمَا أَنّ -أحمد- حَتَّى مَاتَ.((كتاب العبودية – ابن تيمية – صفحة رقم ٨٥)) وذلك لأن المشتكي طالب بلسان الحال، إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه، والعبد مأمور بأن يسأل ربه دون خلقه كما قال سبحانه وتعالى: { فَرَغْتَ فَانْصَبْ وإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سُورَةُ الشَّرْحِ: ٨] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: «إذا سألتَ فاسألِ اللَّهَ وإذا استعنتَ فاستعن باللَّهِ» أخرجه أحمد ((٢٨٠٣)) ولا بد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور، فالأول هو التقوى – أي طاعة الله سبحانه وتعالى بفعل المأمور وترك المحظور- والثاني هو الصبر -أي الصبر على ما يصيبه من القضاء المقدور- كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[سُورَةُ يُوسُفَ: ٩٠]

وهنا فرقٌ بين الشكوى والإخبار، أما إخبار الصديق أو الصاحب عن حاله فلا بأس بذلك اتفاقًا للاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل إلى زوال ضرره لم يقدح ذلك في الصبر كإخبار المريض الطبيب بمرضه.

وهنا مسألة: ما حكم الأنين -يعني الإنسان يقول آآآه- في مرضه؟ فالعلماء اختلفوا أولًا في مسألة هل يُكتب الأنين الذي يكون من المريض أم لا يُكتب؟ قال بعضهم يُكتب على العبد كل شيء حتى الأنين في المرض وهذا ظاهر قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[سُورَةُ قٓ: ١٨] لأن قوله “من قول” نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، بل هي نص صريح في العموم، وقال بعض العلماء لا يُكتب من الأعمال إلا ما فيه ثواب أو عقاب، وكلهم مُجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب، فالذين يقولون لا يُكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب والذين يقولون يُكتب الجميع متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب، إلا أن بعضهم يقول لا يُكتب أصلًا وبعضهم يقول يُكتب أولًا ثم يُمحى.

وهنا ننتقل إلى المسألة الأخرى: هل الأنين يقدح في الصبر؟ هذا فيه روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، أما الأولى: الكراهة؛ لما روي عن طاووس أنه كان يكره الأنين في المرض فقال مجاهد: كل شيء يكتب على ابن آدم ما يتكلم به حتى الأنين في مرضه ((تفسير البغوي – الآية ١٨ من سورة ق)) وقال العلماء: الأنين: شكوى بلسان الحال ينافي الصبر، وأما الرواية الثانية: أنه لا يكره ولا يقدح في الصبر، سُئل أحمد عن المريض يشكو ما يجد من الوجع فقال للسائل: تعرف فيه شيئًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، حديث عائشة رضي الله عنها «رجَع إليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يومٍ مِن جِنازةٍ بالبقيعِ وأنا أجِدُ صُدَاعًا في رأسي وأنا أقولُ : وارَأْسَاه فقال: بل أنا يا عائشةُ وارَأْسَاه، ثمَّ قال:وما ضرَّكِ لو مِتِّ قبْلي فغسَلْتُكِ وكفَّنْتُكِ وصلَّيْتُ عليكِ ثمَّ دفَنْتُكِ» فجعل الإمام أحمد يسمع هذا الحديث ويستحسنه.

قال ابن القيم رحمه الله: اعلم أن الأنين على قسمين: أنين شكوى، فيكره، وأنين استراحة وتفريج، فلا يكره، والله أعلم ((عدة الصابرين – صفحة رقم ٢٧٢)) وعلى هذا فإذا كانت الشكوى على سبيل التسخط فلا شك أنها تنافي الصبر فهذه قد تنقص من ثواب المرء في ابتلائه، وأما إذا كانت فريج واستراحة فلا تؤثر في الثواب والله تعالى أعلم.